الأحد، 10 مايو 2020

زيارة ابي

لم أجلس يوماً على مقعدٍ مع أبي، وكنت قد غادرته بعد زواجي...
قبل سنواتٍ عديدة، بُعيد زواجي، كنت جالساً على أريكةٍ ذات يومٍ حارٍ ورطب، وأنا أحتسي عصيراً مثلجاً أثناء زيارةٍ لأبي.
انخرطت في الحديث عن حياة البالغين والزواج والمسؤوليات والالتزامات، فأخذ والدي يقلّب مكعّبات الثلج في كوبه وجدحني بنظرةٍ واضحةٍ ورصينة.
نصحني قائلاً: "لا تنسَ أصدقاءك أبداً، إذ إنهم سوف يكونون أكثر أهميةً لديك كلّما تقدّم بك العمر".
وتابع: "بصرف النظر عن مدى حبك لعائلتك والأبناء الذين ربما تُرزق بهم، فلا بدّ أن تحتاج الأصدقاء على الدوام. تذكّر أن تخرج معهم وتقوم بنشاطاتٍ معهم وتتصل بهم بين حينٍ وآخر".
قلت في نفسي: "يا لها من نصيحةٍ غريبة!" كنت قد دخلت لتوي عالم المتزوجين، صرتُ راشداً وبالتأكيد، سوف تكون زوجتي والأسرة التي سنبنيها كل ما أحتاجه لمنح معنى لحياتي.
غير أنني أطعته؛ بقيت على تواصل مع أصدقائي وحرصت على أن يزداد عددهم كل سنة. وعلى مدى السنوات، أصبحت أدرك أنّ والدي كان يعرف ما يقوله!
إذ إنّ الزمن والطبيعة يفعلان فعلهما في الرجل، ويبقى الأصدقاء حصوناً لحياته.
بعد حياةٍ امتدت خمسين عاماً، إليكم ما تعلمته:
الزمن يمضي.
الحياة تسير.
المسافات تزداد.
الأطفال يكبرون ويستقلون بحياتهم وكثيراً ما ينفصلون عن أهلهم، على الرغم من أنّ هذا الانفصال يكسر قلب الأهل.
الوظائف تأتي وتذهب.
الأوهام والرغبات وعوامل الجذب والجنس... كلها تضعف.
الناس يفعلون ما يجب ألّا يفعلوه.
الأبوان يموتان.
الزملاء ينسون ما قدّمتَ إليهم.
السباقات انتهت.
لكنّ الأصدقاء الحقيقيين موجودون على الدوام، أيّاً كان الزمن أو المسافة اللذين يفصلانهم عنك.
لا يمكن أن يكون الصديق يوماً بعيداً بحيث لا تجده عند حاجتك إليه، فهو يتواصل معك ويتدخل لصالحك، ينتظرك بذراعين مفتوحتين أو بتبريكاتٍ لحياتك.
عندما بدأنا هذه المغامرة التي تسمى الحياة، لم نكن نعرف شيئاً عن الأفراح أو الأتراح الهائلة التي سنقابلها.
لم نكن نعرف كم سنحتاج إلى بعضنا بعضاً.
أحبوا أهلكم واعتنوا بأبنائكم، لكن ليكن لديكم مجموعة من الأصدقاء الجيدين.

مهداة إلى كل الأصدقاء.
الكاتبه الدكتورة سحر رجب